موقف سياسي أسبوعي: خطبة الجمعة: بتاريخ 20 شوال 1446هـ الموافق له 18 نيسان 2025م: ذكرى الحرب اللبنانية

        بسم الله الرحمن الرحيم

موقف سياسي أسبوعي: خطبة الجمعة:

بتاريخ 20 شوال 1446هـ الموافق له 18 نيسان 2025م

ذكرى الحرب اللبنانية

لقد هالنا في ما قرأناه وسمعناه ممن تحدث عن الذكرى الخمسين لباص عين الرمانة، ان الفريق المعتدي والذي ارتبط بشكل أو بآخر بالعلدو الصهيوني، اي المؤامرة الكبرى، يتفاخر بما فعل وينسب نفسه للمقاومة والصمود ، فيما الذين انخرطوا مع المقاومة الفلسطينية بما تحمل من مباديء ومُثل عليا، بغض النظر عن الاخطاء والانحرافات ، يقدمون الاعتذار ويتنصلون من الاشتراك في الحرب اللبنانية وكأنهم هم المذنبون والمجرمون والمتسببون بالحرب اللبنانية.

ولا بد من وقفة نوضح من خلالها بعض الامور ونضع النقاط على الحروف فنقول:

اولا: جذور الحرب اللبنانية عميقة في التاريخ يعود اولها الى هجرة الموارنة من حلب وحمص وحماة الى الجبال اللبنانية فراراً من الحكم الاسلامي الجديد، وكان هذا في العام 50 هجرية – 670 ميلادي، ونراجع هنا ما كتبه المؤرخ (كمال الصليبي) عن هذه الحقبة، ولقد اثبت الاسلام انه حافظ عليهم عندما افتى الامام الاوزاعي بذلك الموقف الشهير الذي حقن فيه دماء “الجراجمة”، عندما هم الوالي العباسي (صالح بن علي) بالقيام بحملة عارمة تستهدف استئصالهم، بعدما قام البعض بشن الهجوم على الجيش الاسلامي: فارسل رسالة له خاطبه بلهجة حاسمة: ليس لك ان تأخذ عامتهم بذنوب خاصتهم، والله يقول (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ … (18)) (فاطر)، وامتثل الوالي لفتوى الامام الاوزاعي، واسس هذا الموقف المميز لجذور الكيان اللبناني، وهذا ما كان يُدرّس في المدارس الابتدائية، وحفظنا ذلك منذ الصغر.

والمرة الثانية، التى حمى فيها “الاسلام” الوجود المسيحي، هو اثر مجازر 1860، حيث قام الامير عبد القادر الجزائري بحماية المسيحيين في بيروت ودمشق، واستنفر بسلاحه مع انصاره للوقوف في وجه المعتدين على المسيحيين.

لنؤكد من خلال هاتين الحادثتين الشهيرتين، بان الاسلام كتراث وكثقافة والتزام يؤكد على العيش المشترك وليس العكس.

ثانيا: لا شك ان الجهات التي حكمت باسم الاسلام جميعا، الامويون ثم العباسيون، فالايوبيون والمماليك ثم العثمانيون ارتكبوا اخطاء كثيرة مع الجميع، ولكن الخطأ مع المسيحيين تتم قراءته بخلفية طائفية، ولولا هذه الاخطاء التي نُسبت للاسلام لكان موضوع العيش المشترك افضل بكثير.

ثالثا: ان جذور الحرب اللبنانية زرعها الاجنبي من خلال نظام القائمقاميتين عام 1840، ثم نظام المتصرفية عام 1860، ثم من خلال اعلان دولة لبنان الكبير، حيث حظي المسيحيون وخاصة الموارنة بكثير من الامتيازات تحولت الى عقدتين لخصت بهما الاوضاع عشية الحرب اللبنانية:

عقدة الخوف لدى المسيحيين، وعقدة الغبن لدى المسلمين، بحيث ان المسيحيين يخافون من امكانية ذوبانهم في هذا البحر من المسلمين، فيما ان المسلمين يشعرون بانتقاص حقيقي من حقوقهم فلا يتمكن، على سبيل المثال، اصحاب الكفاءات من استلام المناصب الحساسة في الدولة، والحق يقال ان العقدة الاولى ليست دقيقة، بحيث ان المسيحيين عاشوا في الدول العربية معززين مكرمين في الخليج وفي مصر (قبل 1952)، وجنوا ثروات هائلة، كما ان السياحة العربية كانت تنفق الاموال الهائلة في المناطق المسيحية اكثر من اي منطقة اخرى … الخ.

رابعا: يجب ان نعترف ان المؤامرة الاميركية الغربية الصهيونية كانت قادرة على التحكم في مسار الحرب اللبنانية، في اهم محطاتها، وكان كثير من اللاعبين، من كافة الاطراف، العوبة في يد المؤامرة يتم توجيههم بما يخدم الهدف الكبير للمؤامرة، وهو ضرب المقاومة الفلسطينية واشغالها بالحرب اللبنانية، وضرب الاقتصاد اللبناني المزدهر الذي يسيء الى اسرائيل، وضرب فكرة التعايش بين اللبانيين خدمة للفكرة العنصرية الصهيونية، وتم ذلك عن طريق امرين:

  • اقناع المسيحيين بأن الفلسطينيين يريدون لبنان وطناً بديلاً لهم، واكدوا ذلك من خلال مبعوث الوزير كسنجر السفير دين براون، وذلك في نيسان 1971 الذي طلب من الرئيس فرنجية وقتها بأن يركب الموارنة في السفن الاميركية قائلا: (لقد قضي الامر يا مسيحيي لبنان، مآلكم كندا، وها هي البواخر قبالة شواطئكم بانتظاركم في عرض البحر، فلستم هنا الا فائضاً بشرياً لا مستقبل له)، اصبح المسيحي يحارب عن عقيدة وبشراسة دفاعا عن ارضه، فيما ان هذه الفكرة لم تكن صحيحة، كما لم تكن قابلة للتطبيق، ولم يكن الاسرائيلي ليقبل بتوطين الفلسطينيين على حدوده، ولم يكن الفلسطينيون ليقبلوا بوطن بديل عن فلسطين.
  • اقناع المقاومة الفلسطينية بأنها لن تستطيع محاربة اسرائيل حتى تحمي ظهرها من عملاء اسرائيل، فكان الشعار الكبير الذي استثمر كثيرا في هذا الاتجاه (طريق القدس تمر من جونية).

هاتان الفكرتان الخبيثتان، كانت كمن يصب الزيت على النار ويمد النار بوقود متجدد.

خامسا: نعم، الجميع اخطأ، والجميع تم التلاعب به، ولكن فارق كبير بين من يعلم تماما انه مخطيء وانه جزء من المؤامرة، وبين من تم خداعه بطريقة او بأخرى، كما قال سيدنا علي (رضي الله عنه) عن الخوارج: ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأصابه، بالتأكيد ليس من تعامل مع اسرائيل بحجة طلب الحماية، كمن ارتبط بالمقاومة الفلسطينية بما تحمل من شعارات عالية الاهمية، ليس هذا كذاك، وان كانت المقاومة الفلسطينية اخطأت بالتأكيد بالتكتيك، وبكثير من الممارسات، ولكن الهدف المفترض كان مواجهة الصهيونية بما تحمل من افكار وممارسات معادية للاسنانية.

وهنا لا بد ان نذكر ان التعامل مع اسرائيل لم يكن وليد الخوف من التوطين ومن الفلسطينيين، بل لقد اثبتت كتابات كثيرة ان مؤسس حزب الكتائب (الشيخ بيار الجميل) طلب من اسرائيل مساهمة مالية لدعم معركته الانتخابية عام 1951، حيث لم يكن هنالك مقاومة فلسطينية ولا عبد الناصر ولا شعارات قومية او اسلامية كبرى، وارسلت له اسرائيل ثلاثة الاف دولار عوضا عن العشرة الاف التي طلبها(…).

كما اننا لا ننسى ان شخصيات مسيحية بارزة تحدثت لفترة ما عن وطن قوي ماروني  في لبنان في مقابل وطن قومي يهودي في فلسطين، وكان ابرز هؤلاء البطريرك انطون عريضة (1932-1955) ومطران بيروت اغناطيوس مبارك، وطبعا الرئيس اميل اده.

وحتى تكتمل الصورة نحن لا نتهم المسيحيين جميعا ولا الموارنة، بانهم جميعا يوافقون على هذا الطرح الاستعماري ، بل ان اميل اده تراجعت اسهمه كثيرا بعد الاستقلال والمطران عريضة تمت اقالته من قبل الفاتيكان … الخ.

كما ان ممارسات الميليشيات المرتبطة بالعدو الصهيوني لم تكن لتحظى بشعبية واسعة، ودليل ذلك ان العماد ميشال عون عندما اعلن حرب الالغاء والتحرير عام 1989 اكتسب شعبية خيالية واصبح الجمهور العريض ينام في ساحات قصر بعبدا (قصر الشعب) كما اسماه وقتها، والحق اننا تفاجأنا بهذا الامر لان الاعلام كان يصور مليشيات القوات اللبنانية كممثل وحيد للموارنة في لبنان … الخ.

سادسا: اذا لم يبن لبنان الجديد على اساس تأكيد الخطر الصيهوني على لبنان كصيغة العيش المشترك، بل على المسيحيين قبل المسلمين، وعلى كل شعار انساني وكل هدف ذي قيمة، اذا لم يبن “لبنان الجديد” على هذا الوضوح فعبثاً نتحدث عن اصلاح وعن دولة جديدة وعن عهد جديد وعن آمال عريضة.

وما نراه اليوم مؤسف جدا، حيث تركز فئة لبنانية على نزع سلاح المقاومة بطريقة فظة، وغير قابلة للتطبيق، فيما يتم السكوت عن الاعتداءات الاسرائيلية اليومية المتمثلة باغتيالات واسعة وتدمير واحتلال، وباستخفاف بكل الاتفاقات وبكل المواثيق والمعاهدات الدولية.

كما انهم يتحدثون عن حرب الاسناد وكأنها جريمة تناقض الانتماء للبنان والوطن، يعني يريدون لبنان المفترض خاليا من المشاعر الانسانية والعلاقات العربية الحقيقية، الا ان تكون هذه العلاقات سببا لاستجلاب الاموال والاستثمارات، ليصبح لبنان من نظرهم مجرد متسول للرساميل على حساب كل المباديء والقيم والانسانية.

سابعا: لن يكون استذكارا للحرب اللبنانية نافعا دون ان تكون هذه الفكرة واضحة جدا، ونشير هنا الى اهمية ما فعله المسؤول السابق في القوات اللبنانية (اسعد شفتري) واعترف بالجزء الاكبر من الاخطاء والجرائم التي مارستها القوات اللبنانية، فيما ان الذين زعموا تمثيل الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، واعتذروا على مشاركتهم الحرب لم يكونوا منصفين لانهم لم يضعوا الامور في سياقها السليم.

ثامنا: في هذه المرحلة الدقيقة والتي قد تكون اصعب المراحل منذ نكبة 1948، علينا ان نطرح الامور بدقة، فرغم المآسي التي حلت بنا، فان ما انجزته المقاومة في لبنان عام 2000 ثم عام 2006 كان تاريخيا.

وما قدمه شعب فلسطين واهل غزة من صمود وبطولات خيالية ، يجعلنا نحلم بمستقبل واعد، رغم المآسي التي تحيط بنا.