في رثاء دولة الرئيس سليم الحص: الموقف سلاح

بسم الله الرحمن الرحيم

الموقف سلاح

(في رثاء دولة الرئيس سليم الحص)

بقلم: الشيخ ماهر حمود

لدى استقالته من حكومة أُطلق عليها وقتها (حكومة الإنماء والإعمار) وذلك في 16 تموز 1979، أورد الراحل الكبير كلمة في غاية الأهمية: (وظل سلاح الموقف في غمده)، ولقد شرح ذلك تكرارا، فقال: صحيح أن صلاحيات رئيس الحكومة قبل الطائف محدودة ومقيدة بصلاحيات رئيس الجمهورية الواسعة، وكان الوصف الدقيق الذي أطلقه الرئيس سامي الصلح: رئيس الحكومة باشكاتب عند الرئيس، يعبر عن ذلك تعبيرا دقيقا، ولكن رئيس الحكومة يستطيع أن يقول لا، يستطيع أن يرفض التوقيع، فيتوقف أي مرسوم لايريده، ولكنهم، أي رؤساء الحكومات، لم يستعملوا هذه الصلاحية إلا نادرا… أما هو فقد استعملها بعد أن كان يوقع، كما كان يقول دائما، ستة أشهر بعد اختياره رئيسا للحكومة، كان يوقع دون أي تحفظ، لأنهم أوهموه أنهم يسعون للإنماء والإعمار دون أي اعتبارات طائفية أو فئوية… إلى أن اكتشف، والتعبير له، أن كل شيء في لبنان طائفية، فأصبح يمتنع عن التوقيع حتى يدرس الموضوع بكافة أبعاده، ولعل ما دفعه إلى ذلك حملة قام بها خطباء المساجد (الشباب) وقتها بموضوع إعادة إعمار وسط بيروت بعد حرب السنتين، حيث كان الوسط ساحة حرب حقيقية، وكان المشروع المقترح ينال من المساجد وأراضي الأوقاف، إضافة الى أمور أخرى كثيرة لم يتم الإعلان عنها، الخ…

هذه الكلمة، و(وظل سلاح الموقف في غمده)، حفرت عميقا في نفسي، لأنها تعبير دقيق عن شخص الراحل الكبير وقدرته في مواجهة الانحراف، وعندما تم اعتقال الشيخ راغب حرب الصديق العزيز وشريكنا في تجمع العلماء، (وذلك في 8 آذار 1983) أي بعد تلك الاستقالة وذلك البيان بحوالي أربع سنوات، لم أجد تعبيرا أفضل من كلمة (الموقف سلاح)، التي اقتبستها من كلام الراحل الكبير، ووضعتها تحت صورة الشيخ راغب، فإذا بهذه الكلمة تصبح شعارا رئيسيا من شعارات المقاومة، نفخر بها، وترسم لنا آفاقا واسعة للمستقبل.

إذن هذه واحدة من انجازاته التي لا تحصى، إذ نزل من سيارته (على سبيل المثال) لمصافحتنا في شبعا يوم الأحد الذي تلا الخامس والعشرين من العام 2000، عام التحرير، ويظهر على وجهه البشر والسرور بالتحرير وبالمعاني العظيمة التي يحملها هذا التحرير، ولعله رئيس الحكومة الوحيد الذي زار المناطق المحررة بعد العام 2000.

وبغض النظر عمن قال ولمن قيل:

دخلت على تاريخنا ذات ليلة        فرائحة التاريخ مسك وعنبر

وان هذا البيت يعبر عن دخوله في السياسة أفضل تعبير، فبالفعل عندما دخل إلى السياسة اللبنانية فاح عطر في جنباتها، وجالت قوة خفية تحاول أن تصلح الفساد المستشري في الحياة السياسية، ولكن أنى له ذلك، هو فرد في النهاية، ملأ احترامه وحبه القلوب وملأ العقول بحكمته، ولكن لم يكن له نظراء في السياسة يستطيع الاعتماد عليهم ليشكلوا فريقا سياسيا فاعلا ورافعة سياسية، وأنى له أن يقف في وجه وحش المال، والمؤامرات الدولية الكبرى…

لم يكن يتوقف عن العمل، بل لم يكن جدول مواعيده يتغير كثيرا، عندما يكون في الحكم أو خارجه، فوقته للناس وللشأن العام، بل تستطيع أن تقول، ينتقل من قمة إلى قمة، وإحدى قممه علاقته المميزة مع سماحة الشهيد الشيخ حسن خالد، حيث رفعت صورهما في أنحاء بيروت مذيلة ب (الاطفائيان)، وأصاب من فعل ذلك، كان ذلك في فترة الاضطرابات قبل اتفاق الطائف.

والأهم من ذلك، صلاة عيد الفطر الجامعة في الملعب البلدي في 11 تموز 1983، والتي ضمت حسب جريدة السفير خمسين ألف مصل، وكانت أهم أهدافها إدانة الإجراءات الأمنية الصارمة والظالمة على بيروت الغربية أوائل حكم أمين الجميل، والتي كان يهدف من خلالها إلى إثبات أنه يحكم شيئا من لبنان، فلم يكن له أي سيطرة حقيقية على أي منطقة لبنانية ، فرفع شعار بيروت الكبرى واتخذ هذه الإجراءات الصارمة لتحقيق حلمه… في هذه الصلاة الجامعة رفع الشهيد الشيخ حسن خالد شعار: (لا نريد أن تكبر بيروت ليصغر لبنان)، ولقد كان الهدف واضحا، ولقد كان الجزء السياسي من هذه الخطبة التاريخية بالتشاور مع الرئيس الراحل الكبير بل من كتابته.

كما كانت علاقته مع سماحة الراحل الكبير محمد حسين فضل الله أمرا مميزا، حضر تأبين والده وألقى كلمة مميزة ثم حجّأ سويا عام 1990 على الأرجح، وكانا يتشاوران في كل كبيرة وصغيرة. رحم الله الجميع.

وإنه لمن المؤلم، على سبيل المثال، أن يقول عبد الحليم خدام عندما كان له باع رئيسي في تشكيل الحكومات: مثل هذا الرجل يناسب حكومة في السويد أو فنلندا وأمثالهما… أما في لبنان فنحتاج إلى نوعية أخرى، … إنها إدانة للطبقة السياسية، واعتراف بأنه لا ينجح في السياسة في لبنان إلا من يعتمد الأساليب الملتوية، أما أهل الاستقامة فلا يستطيعون مواجهة هذا الكم من الانحراف والفساد…

وثمة صفة لطيفة أخرى لا يعلمها كثيرون، أن الراحل الكبير يملك موهبة النكتة الهادفة، كان قادرا على التعبير عن الموقف السياسي بكل تعقيداته بطُرَفٍ لطيفة دقيقة، تعبر عن الموقف دون الحاجة إلى إيراد تسميات تؤذي فلانا أو فلانا… ومن نكاته المأثورة، أنه عندما تم تحويل مراكز الأحزاب إلى مراكز اجتماعية للحد من الاشتباكات بين الأحياء، قال بعد فشل هذا الإجراء: أنظروا إلى هذا القصف الإجتماعي…

قل مثله، بل ندر أمثاله، لن يتكرر هذا الشخص المثالي الذي يطلق الشعار ويلتزم به، وأهم ما قال: لا يزال المسؤول قويا حتى يطلب شيئا لنفسه… وهو لم يطلب شيئا لنفسه، بل هو مثالي في أموره الخاصة، واحتياجاته الشخصية التي لا نستطيع تسميتها حرصا على خصوصيته…

ننعيه، بل ننعي السياسة في لبنان، هذه السياسة التي لم تستطع أن تخرج إلى الحياة السياسية أمثاله… ولن نرى مثله قريبا … وللأسف.

رحمه الله رحمة واسعة، وجعله قدوة لأهل السياسة، والعاملين في الشأن العام.