اني مغلوب فانتصر!

    بسم الله الرحمن الرحيم

موقف سياسي أسبوعي: خطبة الجمعة:

بتاريخ 18 جمادى الآخرة 1446هـ الموافق له 20 كانون الاول 2024م

اني مغلوب فانتصر!

آية من كتاب الله تصف موقف نبي الله نوح عليه السلام، وقد بذل كل ما يستطيع خلال تسعمائة وخمسين عاما، حتى ينشر الدعوة التي أمره الله بتبليغها، ولكن قومه كذبوه وآذوه، الا القليل منهم، وفي نهاية الامر توجه الى الله تعالى: اللهم اني مغلوب فانتصر، (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (11)) (القمر)، نصره الله باهلاك قومه وسائر المكذّبين له بالطوفان.

في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم نصره الله بالريح العاصف التي اقتلعت خيام المشركين المحاصرين للمدينة المنورة، وأطفأت نارهم وقلبت قدورهم، ولم يكن المسلمون المحاصرون مقصرّين بالدفاع والصد عن مدينتهم، فكان الانتصار الالهي، كان ذلك في غزوة الخندق او الاحزاب، وثمة امثلة اخرى تؤكد ان الانسان حين يبذل كل جهده ويصل الى طريق مسدود يمده الله بقوة من عنده.

اننا نتوجه الى الله فنقول يا رب غُلبنا فانتصر لنا، انه دينك وانها شريعتك وانها فلسطينك ومسرى نبيك وانه انسانك الذي كرمته، يباد ويهان ويحتقر شبابنا قاموا بكل ما يستطيعون ووصلوا الى طريق مسدود، كما يظهر لنا، فالامر أمرك والحكمة حكمتك والعطاء عطاؤك والامر اليك من قبل ومن بعد، هل نستطيع؟ حتى نستطيع الاجابة على هذا السؤال لا بد من توضيح نقاط:

اولا: لا شك ان الطريق الذي سلكته المقاومة، هو  الامر الالهي المستنتج من الآيات الحكيمة والاحاديث الشريفة والسيرة النبوية المطهرة، فضلا عن ان السبيل الذي اختارته المقاومة ينسجم مع التفكير البشري السليم ويتوافق مع التجرية البشرية في كافة مراحل التاريخ  فمهما كانت النتائج فلا يصح ان نشكك بحسن الاختيار من حيث المبدأ.

وهنا نؤكد مرة اخرى ان ما اعتمده محمور المقاومة، وما اطلقه الامام الخميني في انطلاق ثورته ثم اعتماده كمنهج سياسي جهادي، هو منهج منطلق من القرآن لم يمر على اي مذهب من المذاهب ولم تشوهه فترات التاريخ العصيبة، لكن العرب والمسلمين رفضوه بغالبيتهم، معتمدين على الخلاف المذهبي، في نفس الوقت لم تقدم ايران، سواء عجزت أم لم ترد، اي خطوة حقيقية على طريق التقريب بين المذاهب والخروج من الخلافات التي تحولت الى حاجز صفيق يمنع انتشار العقيدة السياسية السليمة.

ثانيا: نعم نستطيع ان نشهد ان الجهد الذي بذلته المقاومة في الاعداد والاستعداد وبناء التحالفات ونشر الثقافة الموازية، وتسخير كافة الامكانيات الممكنة قد بذل بأفضل ما يمكن.

ثالثا: يحق لاهل الحق ان يتراجعوا وان يسالموا العدو الذي يتفوق بعدده وعدته، ولا يعتبر هذا خيانة او نقضا للعهد مع الله ومع المناصرين والمحازبين، ولكنها لم تفعل مما يجعلها اكثر  قرباً الى الله والى فكرة النصر.

وهنا نؤكد ان من يتحدث عن الوثيقة التي وقعها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة، لا تصلح للاستناد عليها لاجراء استسلام معاصر، وكذلك صلح الحديبية.

فالوثيقة التي وقعها رسول الله صلى الله عليه وسلم نقضها اليهود بعد فترة وجيزة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صددها ما كان لليهود عهد ولن يكون، أما صلح الحديبية، فهو بتعبيرنا المعاصر هدنة لم يتحقق منها الا سنتان من اصل عشر سنوات، وايضا بنقض عهد من اليهود، والاهم انه خلال هاتين السنتين بذل المسلمون جهودا جبارة في الدعوة فتضاعف عدد المسلمين ضعفين او اكثر، ولم يروجوا مثلا لسياسة الانفتاح والسلام الدائم والشامل.

رابعا: ثمة خصوصية للصهيونية ولقضية فلسطين بتفاصيلها عن كافة الصراعات في التاريخ، كون الصهيونية تتميز بالعنصرية وبدعم عالمي واسع وبقدرة هائلة على تزوير الحقائق، بل قلبها رأسا على عقب، مما يجعل صراعنا مع الصهاينة أقسى وأشد وقعاً على مجتمعاتنا .

أمام هذا المشهد ما هو الموقف المفترض؟:

اولا: لا شيء يجيز لنا ان نتخلى عن المبدأ، وفق المشهور: حتى لو كان الاحتفاظ بهذا المبدأ، اضعف الايمان وهو الحفاظ على المبدأ بالقلب فقط.

ثانيا: ينبغي ان يكون القرار نابعا من العقل والقلب والايمان، والقناعة وليس نتيجة لاملاء خارجي لصالح العدو وحلفائه، او ناتجا عن ضعف ذاتي او جبن او قلة ادراك، فالفارق كبير بين ان نكون مثلا مع القرارات الدولية حرصا على تقليل الخسائر والحفاظ على “ما تبقى” من المقاومة، وبين ان نكون صدىً لاعداء المقاومة الذين يتربصون بها الدوائر.

ثالثا: ينبغي الاستفادة من فترات سابقة من التاريخ ظهر فيها المعتدي وكأنه حقق كل اهدافه ثم تبين انه كان واهما، والاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 82 واحد من الامثلة، فقد بدأت المقاومة في ايلول بعد شهر او شهرين من تمركز الاحتلال وكانت اشرس من سابقاتها.

 

وفي كل ما ذكرناه نقول: المشهد مؤلم وقاتم واسوأ ما فيه (حتى الآن)، هو هذا التوغل والانتشار الاسرائيلي في انحاء سوريا دون اي ردة فعل، ولو كلامية في وجه هذا التغيير التاريخي، ويترافق مع حملة اعلامية واسعة تروج “للاخطاء” الكبيرة التي وقعت فيها المقاومة، فاوصلتنا الى هنا.

نؤكد هنا ما يلي:

نعم ايماننا كبير بأن الله يخبىء لهذه الامة “نصراً” مؤزرا، ايماننا بالغيب لا يتناقض مع رؤيتنا للواقع بكل ما فيه من آلام وتناقضات مفجعة، وبكل ما يشعر به من عجز امام العدو “العالمي”… ومن هنا حتى يأتي هذا الغيب علينا ان نبقى على قناعاتنا وايماننا العميق لان الحق لا بد ان ينتصر في النهاية .

وهنا لا بد ان نحذر من الاخطاء الكبرى التي يرتكبها الكثيرون من كافة الاتجاهات والانتماءات المذهبية، فيعمدون الى بعض الاحاديث النبوية التي تتحدث عن علامات الساعة، واكثرها مُجتزأ، فينشرونها وفق مفهوم ضيق ويُلزمون اتباعهم بانزالها لفترات محددة من التاريخ، وتتكرر الاخطاء الفادحة ولا يتعلمون من اخطائهم واخطاء غيرهم، مما يسبب نوعاً من الشك في هذه الاحاديث بل في النص الديني كله، نحذر من التمادي بهذه الاخطاء وتكرارها، ونحذر من تأويلات لا تمّت للواقع بصلة.

المدد الالهي قادم باذن الله، دون الارتباط بأي نص من النصوص المحددة، ودون الاستماع الى انصاف المتعلمين والواهمين الذين يوغلون في هذه الاخطاء الجسيمة.

رابط فيدو: خطبة الجمعة: 20-12-2024: https://www.facebook.com/shekh.maherhammoud/videos/594170456323518