بسم الله الرحمن الرحيم
رائد في الحق
توفي أحد رواد الحق القليلين القاضي الأزهري الشيخ أحمد الزين رحمه الله رحمة واسعة… وأستطيع أن أرثيه بقولي مات رفيق عمري:
نعم، يكبرني بواحد وعشرين عاما، ولكنه كان رفيق عمري، كنا نستمع إليه في خطب الأعياد ونحن أطفال فضلا عن القرابة، جدي خال أمه، ولطالما رددها، كم كانت والدته تحب خاليْها، وخاصة جدي الشيخ أحمد أمين سليم حمود، ثم درّسه والدي في الصفوف الأولى، وكان والدي يطلب من التلامذة الصمت للاستماع إلى تلاوته القرآنية بصوته الجهوري الجميل… ولقد عاصرناه في محن واضطرابات، وترافقنا في التحولات التي أصابت هذه الأمة، والإحباط الذي نتج عن الهزائم، وسافرت معه عشرات المرات… لقد تميزت سيرته بحب كبير للغائب الكبير السيد موسى الصدر، ولقد انطبعت في ذهني وذهن الكثيرين صورته وهو يصلي على تراب مسجد كفر شوبا أمام فتحة في الجدار أحدثها القصف الإسرائيلي الغاشم، كان ذلك أواخر العام 1974، وأخرى يجلس على الأرض مع السيد الصدر ومن معه في إحدى التحركات الوطنية…
ذهب إلى الأزهر بمنحة من الأوقاف الإسلامية في صيدا عام 1953، في العام الذي ولدت فيه، وأنهى العالِمية في الشريعة، ثم أتم شهادة الماجستير في القضاء الشرعي، اعتلى منبر المسجد العمري الكبير في صيدا منذ وصوله إلى لبنان عام 1960، وظل يخطب فيه دون انقطاع حتى الجمعة الأخيرة… لم ينقطع عن المسجد إلا لمرض أو سفر… كان خطيباً مفوها، لا أذكر أني سمعت منه خطأً لغويا واحدا. يتتبع مواطن القوة في هذه الأمة محاولاً دفعها نحو الأمام، لا أنسى خطبة عيد له بعد هزيمة 1967 يبحث عن موطن قوة، فإذا به يشيد بالجندي المصري الذي يصلي خلف المدفع، وكانت تلك الصورة قد انتشرت في الصفحات الأولى من الصحف وقتها…
كان مع المقاومة الفلسطينية مؤيداً مشجعاً ناصحاً، وَلكَمْ زاره الشهيد ياسر عرفات، ولكم كلّفه بإصلاح أو بترميم خطأ أو ما إلى ذلك، وكان يكرر خاصة في السبعينات: أنا شيخ الفلسطينيين في صيدا والجوار. كما أنه صادق كل القادة الفلسطينيين وعلى كافة المستويات والانتماءات ولم يوفر أحد من تشجيع على المقاومة والصمود أو من نصح في مكانه. ولكنه توفي دون أن يرى القدس، ولطالما أجهش بالبكاء وهو يقول: سيسألنا الله عن القدس وعن فلسطين وماذا قدمنا لهما.
يفاخر بعمامته لا يخرج من دونها، مؤكداً في كل مناسبة فخره بشهادته الأزهرية والتزامه بالمذهب الحنفي، الخ… شُغف بالثورة الإيرانية وكان في عداد الوفد الأول الذي ذهب للتهنئة برفقة المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وله مع الإمام الخميني صورة مميزة.
وظل وفياً لهذا الخط رغم الضغوط والفتن، ورغم الانهيارات والتقلبات، حافظ في كل التحولات على رباطة جاشه، وكان يلوذ بالصمت عندما لا ينفع الكلام، ولعل أهم ما فيه أنه كان يصمت على الأذى مرددا مرات ومرات المثل العربي: الكريم من كتم إهانته….
أقول رفيق عمري لأنني ومنذ الانخراط الكامل في العمل الإسلامي يعني في العام 1971 كنت أراه دائما وأسمع له دائما… ثم كانت الرحلة التاريخية، غادرنا صيدا تحت وابل قصف الطيران الإسرائيلي عصر الخامس من حزيران 1982… ولم يكن أحد يتوقع أن اجتياحاً غاشماً سيحصل في الأيام أو الساعات القليلة القادمة ولولا أنه نوى هذا السفرلما فعلت، لأن الوالدة التي اعترضت بشدة على فكرة السفر في تلك الظروف، تشجعت واستسلمت لقراري عندما اتصل الفقيد الكبير يقول لي: أنا أنتظرك لتصحبني… وهكذا كان، وكانت رحلة تاريخية بكل ما في الكلمة من معنى… حيث اتفقنا خلال تلك الرحلة وفي إحدى جلسات مؤتمر المستضعفين على إنشاء تجمع العلماء المسلمين لتحشيد الطاقات ضد الاحتلال الإسرائيلي، ودعم فكرة الوحدة الإسلامية وهكذا كان.
وتوالت اللقاءات والجلسات بشكل دوري لا تنقطع، حتى ختمها رحمه الله بالمواظبة على أكثر الصلوات معنا في مسجدنا المتواضع، مسجد القدس، وخاصة العصر والمغرب والعشاء، ولم يكن يغادر بين صلاتي المغرب والعشاء، وله مكان مخصص يقرأ القرآن ويستمع لكلامي مع المصلين، يعلق أحيانا ويعود للتلاوة… ثم أوصله إلى المنزل، ويؤكد لي محبته وتقديره وصلة القربى ومشاعر والدته رحمها الله لخالها جدي في كل يوم تقريبا، الخ…
رفيق عمري، قبل أن أتحدث عن العلم والخطب والمواقف…انخرط كثيرون في زحمة الأزمة المذهبية في التطاول على شخصه ورشقه بالاتهامات، وظل صامدا ثابت الجنان لا يهتز لكل تلك الموجات المتلاحقة.
كنا معاً في مكة المكرمة في موسم الحج 1987، وكنا كغيرنا شهوداً على المجزرة الرهيبة التي حصلت، هو آثر الصمت ولكن تمت محاسبته بقسوة على موقفي إزاء تلك المجزرة… كان شاهداً على التحولات وكان شاهداً أيضا على النكران الذي ووجه به من قبل كثيرين، ولكن الله ختم له بشهادة أحد الأخصام الشرسين (سابقاً)، إذ رآه في المنام يخرج من البحر بثياب مدنية قرب استراحة صيدا رافع الجبين قوي البنية دون أن تبتل ثيابه بمياه البحر، فيما يتساءل الناظر إليه ومن معه، كيف لرجل قارب التسعين أن يكون بمثل هذا النشاط وتلك الهمة، ثم شاهده يصعد درجات في بيت عتيق في الجهة المقابلة من الشارع وكأنه بيته… والتفسير واضح، لقد تطهر من الذنوب وخرج نظيفا طاهرا من أية تهمة، يعني خرج من الفتن نظيفاً، أما الدرجات فهي درجات عند الله خاصة أنه يدخل إلى بيت قديم، هو بيته ومن الجهة الأخرى من الطريق يعني الحياة الأخرى، رويت له ذلك بحضور باقي المصلين في مسجد القدس دون الدخول فيما يعنيه المنام بدقة.
يستطيع المرء أن يتحدث كثيراً عمن يحب بكل إطراء ممكن، كما نستطيع أن نجد أخطاءً وثغرات حتى لأفضل الناس، ويكفينا بيت الشعر المنسوب لعلي بن الجهم:
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه
نقول هذا لمن يعجز عن رؤية الحسنات، أو الاعتراف بها… مؤكدين أموراً لا ينكرها إلا جاحد، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
لقد دخل بيوت صيدا والجوار كلها والمخيمات، وعقد آلاف وحتى عشرات الآلاف من عقود الزواج، وأصلح بين الأزواج وبين المتخاصمين ما لا يحصى، ولم يتقاض قرشا واحدا، بل حتى أنه إذا قبل هدية يقبلها على مضض، فيما ثمة من اعتبر العقود والعمل الشرعي تجارة رابحة حتى لو كانت على حساب الدين… ولعل أكثر ما يتوافق مع شخصيته من القرآن الكريم:
{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (سورة فصلت 34).
{ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } (سورة الرعد 22).
{ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } (سورة المزمل 10).
لن ينتهي الكلام حتى يجف المداد… وحسبنا أن نسلم بقدر الله ونحن الذين نعلّم الناس أن يكونوا على يقين أن ملك الموت لا يأتمر إلا بأمر الله، ولا شأن له بالأمراض أو الحوادث وسائر الأسباب… هو يأتمر بأمر الله فقط… وبالتالي جاء ملك الموت بأمر الله في اللحظة والمكان الذي قدره الله له، فليس لنا إلا التسليم بقضاء الله وقدره مستذكرين أنه مر بأكثر من أزمة صحية حقيقية ولكن الله قد أمد بعمره حتى أصبح على بعد خطوة ونصف من التسعين، هذا في التاريخ الشمسي، أما بالتاريخ القمري فقد تجاوز التسعين، (خيركم من حسن عمله وطال عمره) [رواه الترمذي وقال حديث حسن]، وأيضا: (موت الفجأة رحمة للمؤمن وعذاب للكافر) [رواه الإمام أحمد]… بالأمس كنا سويا واليوم رحل، سبحان الله، هذا قدر الله في عباده، رحمه الله رحمة واسعة، وحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
بقلم الشيخ ماهر حمود